سورة الرعد - تفسير تفسير الخازن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{والذين صبروا} يعني على طاعة الله وقال ابن عباس: على أمر الله. وقال عطاء: على المصائب والنوائب. وقيل: صبروا عن الشهوات وعن المعاصي وقيل: حمله على العموم أولى فيدخل فيه الصبر على جميع النوائب والمأمورات من سائر العبادات والطاعات، وجميع أعمال البر وترك جميع المنهيات فيدخل فيه ترك جميع المعاصي من الحسد والحقد والغيبة، وغير ذلك من المنهيات، ويدخل فيه الصبر عن المباحات مثل جميع الشهوات والصبر على ما نزل به من الأمراض والمصائب، وأصل الصبر حبس النفس عما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه فالصبر لفظ عام يدخل تحته جميع ما ذكر، وإنما قيد الصبر بقوله: {ابتغاء وجه ربهم} لأن الصبر ينقسم إلى نوعين: الأول الصبر المذموم وهو أن الإنسان قد يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على ما تحمل من النوازل وقد يصبر لئلا يعاب على الجزع، وقد يصبر لئلا تشمت به الأعداء، وكل هذه الأمور وإن كان ظاهرها الصبر فليس ذلك داخلاً تحت قوله: {ابتغاء وجه ربهم} لأنه لغير الله تعالى. النوع الثاني: الصبر المحمود وهو أن يكون الإنسان صابراً لله تعالى راضياً بما نزل به من الله طالباً في ذلك الصبر ثواب الله محتسباً أجره على الله فهذا هو الصبر الداخل تحت قوله ابتغاء وجه ربهم يعني صبروا على ما نزل بهم تعظيماً لله وطلب رضوانه {وأقاموا الصلاة} يعني الصلاة المفروضة. وقيل: حمله على العموم أولى فيدخل صلاة الفرض والنقل والمراد بإقامتها إتمام أركانها وهيئآتها {وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية} قال الحسن: المراد به الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها سراً، وإن كان متهماً بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها علانية. قيل: إن المراد بالسر ما يخرج من الزكاة بنفسه والمراد بالعلانية ما يؤديه إلى الإمام. وقيل: المراد بالسر صدقة التطوع والمراد بالعلانية الزكاة الواجبة وحمله على العموم أولى {ويدرؤون بالحسنة السيئة} قال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، وهو معنى قوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} ويدل على صحة هذا التأويل ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى خرج إلى الأرض» وقال ابن كيسان: يدفعون الذنب بالتوبة وقيل: لايكافئون الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير وقال القتيبي معناه إذا سفه عليهم حلموا والسفه السيئة والحلم الحسنة، وقال قتادة: ردوا عليهم رداً معروفاً.
وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا. قال عبد الله بن المبارك: هذه ثمان خلال مشيرة إلى أبواب الجنة الثمانية قلت إنما هي تسع خلال فيحتمل أنه عد خلتين بواحدة ولما ذكر الله عز وجل هذه الخلال من أعمال البر، ذكر بعدها ما أعد للعاملين بها من الثواب فقال تعالى: {أولئك} يعني من أتى بهذه الأعمال {لهم عقبى الدار} يعني الجنة والمعنى إن عاقبتهم دار الثواب {جنَّات عدن} بدل من عقبى الدار يعني بساتين إقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به {يدخلونها} يعني الدار التي تقدم وصفها {ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} يعني ومن صدق من آبائهم بما صدقوا به، وإن لم يعمل بأعمالهم قاله ابن عباس. وقال الزجاج: إن الإنسان لا ينتفع بغير أعماله الصالحة فعلى قول ابن عباس: معنى صلح صدق وآمن ووحد، وعلى قول الزجاج معناه أصلح في عمله قال الواحدي والصحيح: ما قاله ابن عباس لأن الله تعالى جعل ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله حيث بشره بدخوله الجنة مع هؤلاء، فدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع العامل الآتي بالأعمال الصالحة، ولو كان دخولهم الجنة بأعمالهم الصالحة، لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان صالحاً في عمله، فهو يدخل الجنة. قال الإمام فخر الدين الرازي: قوله تعالى وأزواجهم ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وروي أنه لما كبرت سودة أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها فسألته أن لا يفعل، ووهبت يومها لعائشة فأمسكها رجاء أن تحشر في جملة أزواجه فهو كالدليل على ما ذكرناه. وقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} يعني من أبواب الجنة. وقيل من أبواب القصور، قال ابن عباس: يريد به التحية من الله والتحف والهدايا {سلام عليكم} يعني يقولون: سلام عليكم فأضمر القول هاهنا لدلالة الكلام عليه {بما صبرتم} يعني يقولون لهم: سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونها في الدنيا وأدخلكم بما صبرتم في دار الدنيا على الطاعات، وترك المحرمات الجنة وقيل: إن السلام قول والصبر فعل ولا يكون القول ثواباً للفعل، فعلى هذا يكون قوله: {سلام عليكم دعاء من الملائكة لهم} يعني سلمكم الله بما صبرتم. قال مقاتل: إن الملائكة يدخلون عليهم في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا والتحف من الله تعالى. يقولون: سلام عليكم بما صبرتم، وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة موقوفاً عليه قال: «إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب فيقبل الملك من ملائكة الله يستأذن فيقوم أدنى الخدم إلى الباب فإذا بالملك يستأذن فيقول: للذي يليه ملك يستأذن ويقول الآخر: كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول ائذنوا له فيقول أقربهم إلى المؤمن ائذنوا له ويقول الذي يليه ائذنوا له وكذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف» {فنعم عقبى الدار} يعني فنعم العقبى عقبى الدار.
وقيل: معناه فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} لما ذكر الله أحوال السعداء وما أعد لهم من الكرامات والخيرات ذكر بعده أحوال الأشقياء، وما لهم من العقوبات فقال تعالى: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} ونقض العهد ضد الوفاء به، وهذا من صفة الكفار لأنهم هم الذين نقضوا عهد الله يعني خالفوا أمره، ومعنى من بعد ميثاقه من بعد ما أوثقوه على أنفسهم بالاعتراف والقبول {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} يعني ما بينهم وبين المؤمنين من الرحم والقرابة {ويفسدون في الأرض} يعني بالكفر والمعاصي {أولئك} يعني من هذه صفته {لهم اللَّعنة} يعني الطرد عن رحمة الله يوم القيامة {ولهم سوء الدار} يعني النار لأن منقلب الناس في العرف إلى دورهم، ومنازلهم، فالمؤمنون لهم عقبى الدار وهي الجنة، والكفار لهم سوء الدار وهي النار. قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} يعني يوسع على من يشاء من عباده فيغنيه من فضله، ويضيق على من يشاء من عباده فيفقره ويقتر عليه، وهذا أمر اقتضته حكمة الله {وفرحوا بالحياة الدنيا} يعني مشركي مكة لما بسط الله عليهم الرزق أشروا وبطروا والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المشتهى. وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا والركون إليها حرام {وما الحياة الدنيا في الآخرة} يعني بالنسبة إلى الآخرة {إلا متاع} أي قليل ذاهب. قال الكلبي: المتاع مثل السكرجة والقصعة والقدر ينتفع بها في الدنيا ثم تذهب كذلك الحياة لأنها ذاهبة لا بقاء لها {ويقول الذين كفروا} يعني من أهل مكة {لولا أنزل عليه آية من ربه} يعني هلا أنزل على محمد أية ومعجزة مثل معجزة موسى وعيسى {قل} أي قل لهم يا محمد: {إن الله يضل من يشاء} فلا ينفعه نزول الآيات وكثرة المعجزات إن لم يهده الله عز وجل وهو قوله: {ويهدي إليه من أناب} يعني ويرشد إلى دينه والإيمان به من أناب بقلبه ورجع إليه بكليته {الذين آمنوا} بدل من قوله من أناب {وتطمئن قلوبهم} يعني وتسكن قلوبهم {بذكر الله} قال مقاتل: بالقرآن لأنه طمأنينة لقلوب المؤمنين والطمأنينة والسكون إنما تكون بقوة اليقين، والاضطراب إنما يكون بالشك {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يعني بذكره تسكن قلوب المؤمنين ويستقر اليقين فيها.
وقال ابن عباس: هذا في الحلف وذلك أن المسلم إذا حلف بالله على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه. فإن قلت أليس قد قال الله تبارك وتعالى في أول سورة الأنفال {إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} والوجل استشعار الخوف، وحصول الاضطراب وهو ضد الطمأنينة فكيف وصفهم بالوجل والطمأنينة وهل يمكن الجمع بينهما في حال واحد. قلت: إنما يكون الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب الطمأنينة، إنما تكون عند الوعد والثواب فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه وعقابه وتطمئن إذا ذكرت فضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه.


{الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم} اختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس: فرح لهم وقرة أعين. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال قتادة: حسن لهم وفي رواية أخرى، عنه إن هذه الكلمة عربية يقول الرجل للرجل: طوبى لك أي أصبت خيراً. وقال إبراهيم النخعي خير لهم وكرامة. وقال الزجاج: طوبى من الطيب وقيل تأويلها الحال المستطابة لهم وهو كل ما استطابه هؤلاء في الجنة من بقاء بلا فناء وعز بلا ذل وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم. قال الأزهري: تقول طوبى لك وطوباك لحن لا تقوله العرب وهو قول أكثر النحويين. وقال سعيد بن جبير: طوبى اسم الجنة بالحبشية وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى اسم شجرة في الجنة تظلل الجنان كلها. وقال عبيد ابن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل دار وغرفة في الجنة منها غصن لم يخلق الله لوناً ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان: الكافور والسلسبيل. وقال مقاتل: كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح وروي عن أبي سعيد الخدري: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طوبى فقال: «هي شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه. قال: «طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة» هكذا ذكر البغوي هذه الحديثين بغير سند، وروي بسنده موقوفاً عن أبي هريرة قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرؤوا إن شئتم وظل ممدود» فبلغ ذلك كعب الأحبار فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى والقرآن على محمد لو أن رجلاً ركب فرساً أو حقة أو جذعة، ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرماً إن الله غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. فقال البغوي وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن الأشعث عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: «إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله لها تفتقي لعبد ي عما يشاء فتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء عن وعن الثياب».
(ق) عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها».
(ق) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها».
(ق) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة» زاد البخاري في روايته «واقرؤوا إن شئتم: {وظل ممدود}». وقوله تعالى: {وحسن مآب} يعني ولهم حسن منقلب ومرجع ينقلبون ويرجعون إليه في الآخرة وهي الجنة. قوله عز وجل: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم} يعني كما أرسلناك يا محمد إلى هذه الأمة كذلك أرسلنا أنبياء قبلك إلى أمم قد خلت ومضت {لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} يعني لتقرأ على أمتك الذي أوحينا إليك من القرآن وشرائع الدين {وهم يكفرون بالرحمن} قال قتادة ومقاتل وابن جريج: هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقالوا لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما نكتب باسمك اللهم فهذا معنى قوله وهم يكفرون بالرحمن يعني أنهم ينكرونه ويجحدونه والمعروف أن الآية مكية. وسبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو ويقول في دعائه: «يا الله يا رحمن» فرجع أبو جهل إلى المشركين وقال: إن محمداً يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ونزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم {اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} فقال الله تعالى: {قل} أي قل يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته {هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت} يعني عليه اعتمدت في أموري كلها {وإليه متاب} يعني وإليه توبتي ورجوعي. قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} الآية نزلت في نفر من مشركي قريش منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم وقيل: إنه مر بهم وهم جلوس فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له عبد الله بن أبي أمية إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى تتفتح فإنها أرض ضيقة لمزارعنا واجعل لنا فيها أنهاراً وعيوناً لنغرس الأشجار، ونزرع ونتخذ البساتين فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود، حيث سخر له الجبال تسير معه أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان كما زعمت فلست بأهون على ربك من سليمان أو أحي لنا جدك قصياً أو من شئت من موتانا لنسأله عن أمرك أحق أو باطل فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله من عيسى فأنزل الله هذه الآية: {ولو أن قرآنا سيِّرت به الجبال} فأذهبت عن وجه الأرض {أو قطِّعت به الأرض} يعني شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً {أو كلِّم به الموتى} فأحياها واختلفوا في جواب لو فقال قوم جواب لو محذوف، وإنما حذف اكتفاء بمعرفة السامع مراده وتقديره ولو أن قرآناً فعل به كذا وكذا لكان هذا القرآن فهو كقول الشاعر:
فأقسم لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أراد: لو شيء أتانا رسوله سواك لرددناه، وهذا معنى قول قتادة فإنه قال معناه لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم وقال آخرون: جواب لو تقدم تقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن، ولم يؤمنوا به لما سبق في علمنا فيهم كما قال: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا} ثم قال تعالى: {بل لله الأمر جميعاً} يعني في هذه الأشياء وفي غيرها إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل {أفلم ييأس الذين آمنوا} قال أكثر المفسرين: معناه أفلم يعلم؟ قال الكلبي: هذه لغة النخع وقيل هي لغة هوازن واختلف أهل اللغة في هذه اللفظة فقال الليث وأبو عبيد ألم ييأس ألم يعلم واستدلوا لهذه اللغة بقول الشاعر:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني *** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
يعني ألم تعلموا. واستدلوا عليه أيضاً بقول شاعر آخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه *** وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
يعني ألم يعلم الأقوام. قال قطرب: يئس بمعنى علم لغة للعرب. قالوا: ووجه هذه اللغة أنه إنما وقع اليأس في مكان العلم لأن علمك بالشيء ويقينك به ييئسك من غيره. وقيل: لم يرد أن اليأس في موضع كلام العرب للعلم وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل العلم بانتفائه فإذن معنى يأسهم يقتضي حصول العلم. وقال الكسائي ما وجدت العرب تقول يئست بمعنى علمت قال وهذا الحرف في القرآن من اليأس المعروف لا من العلم وذلك أن المشركين لما طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات اشرأَبَّ المسلمون لذلك وأرادوا أن يظهر لهم آية ليجتمعوا على الإيمان، فقال الله تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء ويعلموا علماً يقيناً {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} يعني من غير ظهور آية.
وقال الزجاج: القول عندي أن معناه أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو يشاء لهدى الناس جميعاً. وحاصله أن في معنى الآية قولين: أحدهما أن يئس بمعنى علم. والقول الثاني: أنه من اليأس المعروف وتقدير القولين ما تقدم وتمسك أهل السنة يقوله أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً على أن الله لم يشأ هداية جميع الخلائق {ولا يزال الذين كفروا كانوا تصيبهم بما صنعوا} يعني من الكفر والأعمال الخبيثة {قارعة} أي نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا أحياناً مرة بالجدب، ومرة بالسلب ومرة بالقتل والأسر. وقال ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها إليهم {أو تحل} يعني السرايا أو البلية {قريباً من دارهم} وقيل معناه أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم {حتى يأتي وعد الله} يعني النصر والفتح وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه وقيل أراد بوعد الله يوم القيامة لأن الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم {إن الله لا يخلف الميعاد} والغرض منه تشجيع قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإزالة الحزن عنه لعلمه بأن الله لا يخلف الميعاد.


قوله عز وجل: {ولقد استهزئ برسل من قبلك} وذلك أن كفار مكة إنما سألوا هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى أنهم إنما طلبوا منك هذه الآيات على سبيل الاستهزاء، وكذلك قد استهزئ برسل من قبلك {فأمليت للذين كفروا} يعني فأمهلتهم وأطلت لهم المدة {ثم أخذتهم} يعني بالعذاب بعد الإمهال فعذبتهم في الدنيا بالقحط والقتل والأسر وفي الآخرة بالنار {فكيف كان عقاب} يعني فكيف كان عقابي لهم {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} يعني أفمن هو حافظها ورازقها وعالم بها وبما عملت من خير وشر ويجازيها بما كسبت فيثيبها إن أحسنت ويعاقبها إن أساءت وجوابه محذوف، وتقديره كمن ليس بقائم بل هو عاجز عن نفسه ومن كان عاجزاً عن نفسه فهو عن غيره أعجز وهي الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وجعلوا لله شركاء} يعني وهو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي جعلوها لله شركاء {قل سموهم} يعني له. وقيل: صفوهم بما يستحقون ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد {أم تنبئونه} يعني أم تخبرون الله {بما لا يعلم في الأرض} يعني أنه لا يعلم أن لنفسه شريكاً من خلقه وكيف يكون المخلوق شريكاً للخالق وهو العالم بما في السموات والأرض ولو كان لعلمه والمراد من ذلك نفي العلم بأن يكون له شريك {أم بظاهر من القول} يعني أنهم يتعلقون بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له وقيل: معناه بل بظن من القول لا يعلمون حقيقته {بل زين للذين كفروا مكرهم} قال ابن عباس: زين لهم الشيطان الكفر وإنما فسر المكر بالكفر لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر منهم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو الفاعل المختار على الإطلاق لا يقدر أحد أن يتصرف في الوجود إلا بإذنه فتزيين الشيطان إلقاء الوسوسة فقط، ولا يقدر على إضلال أحد وهدايته إلا الله تعالى ويدل على هذا سياق الآية وهو قوله: {ومن يضلل الله فما له من هاد} وقوله: {وصدوا عن السبيل} قرئ بضم الصاد ومعناه صرفوا عن سبيل الدين والرشد والهداية ومنعوا من ذلك والصاد المانع لهم هو الله تعالى، وقرئ وصدوا بفتح الصاد ومعناه أنهم صدوا عن سبيل الله غيرهم أي عن الإيمان {ومن يضلل الله فما له من هاد} الوقف عليه بسكون الدال وحذف الياء في قراءة أكثر القراء {لهم عذاب في الحياة الدنيا} يعني بالقتل والأسر ونحو ذلك مما فيه غيظهم {ولعذاب الآخرة أشق} يعني أشد وأغلظ لأن المشقة غلظ الأمر على النفس وشدته مما يكاد يصدع القلب من شدته فهو من الشق الذي هو الصدع {وما لهم من الله} يعني من عذاب الله {من واق} يعني من مانع يمنعهم من عذابه قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} أي صفة الجنة التي وعد المتقون {تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم} لا ينقطع أبداً {وظلها} يعني أنه دائم لا ينقطع أبداً وليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع، ولا يزول وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون: إن نعيم الجنة يفنى وينقطع وفي الآية دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم.
كما يقول أبو الهذيل واستدل القاضي عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد. قال: ووجه الدليل أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة لقوله: {أكلها دائم} يعني لا ينقطع قال ولا ينكر أن تكون في السموات جنات كثيرة تتمتع بها الملائكة، ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ماروي إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد لم تخلق بعد. والجواب عن هذا أن حاصل دليلهم مركب من آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} والأخرى قوله: {أكلها دائم وظلها} فإذا أدخلنا التخصيص على هذين العمومين سقط دليلهم فنخص هذين الدليلين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة. منها قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} وقوله تعالى: {تلك عقبى الذين اتقوا} يعني أن عاقبة أهل التقوى هي الجنة {وعقبى الكافرين النار} يعني في الآخرة. قوله عز وجل: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} في المراد بالكتاب هنا قولان: أحدهما أنه القرآن والذين أتوه المسلمون وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أنهم يفرحون بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت بتجدد نزول القرآن {ومن الأحزاب} يعني الجماعات الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار واليهود والنصارى {من ينكر بعضه} وهذا قول الحسن وقتادة. فإن قلت: إن الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله فكيف قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه. قلت: إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته لأنه قد ورد فيه آيات دالاَّت على توحيد الله وإثبات قدرته وعلمه وحكمته، وهم لا ينكرون ذلك أبداً والقول الثاني أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثلاثون من الحبشة وعشرة ممن سواهم فرحوا بالقرآن لكونهم آمنوا به وصدقوه، ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين من ينكر بعضه.
وقيل: كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله تعالى ذكر لفظه الرحمن في القرآن فرحوا بذلك فأنزل الله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب يعني مشركي مكة من ينكر بعضه وذلك لمَّا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي} وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن {قل} أي قل يا محمد {إنما أمرت أن أعبد الله} يعني وحده {ولا أشرك به} شيئاً {إليه أدعو} إي إلى الله وإلى الإيمان به أدعوا الناس {وإليه مآب} يعني مرجعي يوم القيامة.

1 | 2 | 3 | 4